قد يبدو غريباً تقسيم حياة الطفل إلى أجزاء ووصف كلّ منها على انفراد . لكننا نفعل الشيء نفسه عندما نقول إن الإنسان يصبح عاقلاً في سن السابعة ، وبالغاً في سن الثلاثة عشرة وراشداً عندما يبلغ الثمانية عشرة .
لا يتكلّم جميع الأطفال بعمر محدّد ولا تنبت أسنان الجميع في تاريخ معيّن ، لكن لتوضيح نمو الطفل من الضروري الاعتماد على نقاط ارتكاز.
في كل الأحوال ، اكتساب المعرفة يأتي بالتدرّج . لن يصحو الطفل في أحد الأيّام وقد أصبح ذكياً أو يستطيع المشي بسهولة . فالذكاء يصحو يوماً بعد يوم والمشي لا يصبح قويماً إلاّ بعد أن يتعلّمه الطفل على مدى أسابيع .
جميع اطفال العالم يتخطون مراحل النمو متبعين الطريقة ذاتها . ومن الممكن ان تتأخر هذه المراحل بالظهور أو تتقدّم . بعض الأطفال يتكلّمون لدى بلوغهم السنة والنصف وآخرون بعمر السنة وثلاثة أشهر وآخرون ايضاً عند بلوغهم السنتين . هذه الاختلافات تتعلّق ، من جهة ، بالوراثة ومن جهة أخرى بتأثير المحيط .
حتى الآن أظهر لك طفلك عاطفته ، وفيما يلي سيبرهن لك عن ذكائه . سيبدأ بإظهار ذكائه من خلال أعمال يديه المرتبكتين .
في الشهر الأول من حياته لا يميّز الطفل سوى الأشياء المتحركة بقربه .
إن متعته الكبرى بين الشهر والأربعة أشهر هي في النظر إلى كل شيء يحيط به . في نهاية هذه الفترة يحاول الطفل التحرّك للوصول إلى هذه الأغراض وإن كان بلا جدوى .
بين الأربعة والثمانية اشهر ، يستطيع أخيراً إمساك الأشياء . عندما نقرّب منه شيئاً ، يحبو نحوه فرحاً . عندما يتوصّل إلى الإمساك به فإنه يلامسه وقتاً طويلاً ثم يضعه في فمه ليمتصه .
عندما يبلغ الطفل الثمانية أشهر تساعده حواسه على التعرّف إلى الاشياء من عدة زوايا : عيناه تدلاّنه على لون الشيء ، يداه تدلانه على شكله وحجمه ، فمه يعرّفه على مذاقه ، وأنفه على الرائحة التي تفوح منه . بهذه الطريقة وشيئاً فشيئاً يتعود الطفل على الأغراض التي تحيط به ويتعرّف عليها . لكن في هذه الفترة ( 4 ـ 8 أشهر ) إن لم يكن الغرض أمامه فالطفل لن يبحث عنه لأن الغرض لم يعد موجوداً بالنسبة إليه .
الفترة الممتدة بين الثمانية والاثني عشر شهراً هي فترة مهمة . في الشهر الثامن من عمره حين يبحث للمرة الأولى عن الملعقة التي وقعت منه أو اللعبة التي خبّئت عليه فهذا يعني أن باستطاعته القيام بالتحقيق التالي : « كنت أملك ملعقة ؛ إنها لم تعد هنا . يجب أن تكون في مكان آخر » . وترينه ينحني نحو الأرض ليفتش عن ملعقته .
يتصرّف الطفل تجاه الأشخاص كما يتصرّف إزاء الأشياء ؛ فهو يعلم أن أمّه موجودة حتى ولو أنه لا يراها . هذا ما كان يجهله في السابق . لذلك هو يبكي عندما تبتعد عنه ولذلك أيضاً يروح يبحث عن الأغراض أو الاشخاص الذين يعلم أنهم موجودون حتى عندما لا يراهم . هذه اللعبة الكلاسيكية هي برهان عن ذكاء الطفل .
الذاكرة هي أيضاً برهان عن الذكاء : عندما يضع الطفل علبة ، كان يلعب بها ، على سريره ليتحدث مع أمه بلغته الخاصة وبعد أن ينتهي يتجه فجأة نحو العلبة ، ليأخذها مظهراً بذلك أنه لم ينسها . في بعض الأحيان نرى طفلاً يرمي لعبته على الأرض فتعود أمه وتلتقطها له ، وفي كل مرة يأخذها ، يعيد رميها من جديد لكننا لا نتنبه إلى أنه في كل مرة يرميها بشكل مختلف وكأنه يحاول التأكد من قانون الجاذبية .
خلال نموّه يتصرّف الطفل بالتدرّج على طريقة ( نيوتن ) : بين سن الثمانية اشهر والسنة يكتشف قانون الجاذبية . وعلى طريقة ( ديكارت ) : « إني أفكّر ، إذن أنا موجود » ، بين السنتين والسنتين والنصف . ذلك هو اكتشاف الـ « أنا » ؛ ويتطوّر بطريقة ( نيتشيه ) أي يمتلك إرادة القدرة ، ففي عمر السنتين والنصف يريد الطفل تأكيد قدرته .
من الطبيعي أن يعيد الطفل المسيرة الفكرية للإنسانية بما أنه ، هو أيضاً ، يكتشف أسرار العالم .
كشفت يد الطفل عن ذكائه ، وستقوم الآن بخدمته ، إذ إنها ستمكّنه من اكتشاف جميع الزوايا وستكون العضو الذي يجلب له المعلومات . هذا الاكتشاف وهذه المعلومات ستعلّم الطفل الكثير من الاشياء التي سيستفيد منها ليغذي معرفته ؛ ويوماً بعد يوم ينمو ذكاؤه . سيفتش عن نقاط التشابه بين الأشياء التي تحيط به ويجد العلاقة التي تربطها بعضاً ببعض . يتمكن الطفل مثلاً من أن يضع مكعباً صغيراً داخل آخر أكبر حجماً . ويتمكن حيناً آخر من إدخال عود في حلقه ، بينما كان في السابق يضع العود بالقرب من الحلقة . في وقت لاحق ، بين السنة والنصف ـ والسنتين ، يحاول الطفل أن يلمس كل شيء .
بما أنه أصبح يمشي في هذا العمر فلن تعود هناك حدود لفضوله . في كل لحظة يقوم باكتشاف جديد ، بتجربة جديدة ، ويكمل ذكاؤه وتقدّمه . بعد القيام بعدة محاولات متكررة وبعد أن يصاب بالفشل مراراً وبعد ان يستعين بالمصادفات ويقلّد من حوله ، تصبح تصرّفات الطفل متزنة ويتمكّن من إيجاد الحلول لمسائل كانت عاصية عليه من أشهر خلت . مثلاً لكي يبحث عن الكرة التي اختفت وراء المقعد ، يدور الطفل حول هذا الأخير . لبلوغ الحلوى الموضوعة على الطاولة ، يضع الكرسي بقربها ويصعد اليها . بعد بلوغ الطفل السنتين من عمره ستقود يده ذكاءه إلى أبعد حدود . وبالإضافة إلى ذلك سيتابع إظهار ذكائه بواسطة الكلام . شيئاً فشيئاً سيتفتح ذهن الطفل ويبدأ بتمتمة الكلمات وجمعها ليؤلّف منها أقوالاً تفهم . ستبدأ عندها مرحلة جديدة من التفكير .
استعمال القدمين ومدى تأثيره على تطور الطفل.. سار طفلك في طريق النمو مستعملاً رأسه ، أما الآن فسيبدأ باستعمال رجليه :
بعدما برهن الطفل على أنه ذكي سوف يظهر الآن أن باستطاعته المشي . هذه ميزة نمو الطفل ، أن يكون في البدء مفكراً ثم يظهر قدرته الجسدية ومن وقت لآخر هو عاطفي كبير .
إنّ تطوّر الطفل باتجاه واحد يحدث خللاً في توازنه . يحتاج الطفل إلى ستة أشهر كي ينتقل من مرحلة الاستناد إلى جوانب سريره ليقف ، إلى مرحلة ترك يد أمه ليمشي وحده . ستة أشهر من المجهود اليومي مع ما يرافقه من نجاح وفشل : في بعض الأيام يتقدم الطفل بخطوات ثابتة وفي الأيام السيئة يتوصل بصعوبة إلى الوقوف على رجليه . في هذه المرحلة يضع الطفل كل قواه وتركيزه على محاولته المشي ولا يقوم بأي تقدم في المجالات الأخرى . في عمر السنة ، حين يتفوّه الطفل بالكلمة الأولى يبدو وكأنه بدأ مرحلة الكلام جيداً ، لكن بين السنة ، والسنة والنصف يعود فيتمتم كلاماً غير واضح . كذلك في عمر السنة ينام جيداً طوال الليل . لكن عندما يبدأ بالمشي سيشكو من الإرق .
يجب معرفة هذه الفكرة التي ترافق نمو الطفل : عندما يقوم الطفل بتقدم في مجال ما فهو يتراجع في المجالات الأخرى . ويجب الاطمئنان إلى كون هذا طبيعياً . إنّ الفترة الممتدة بين عمر السنة والـ 18 شهراً هي سن المشي لدى أكثرية الأطفال ، ويصفها الإختصاصيون « بالفترة الحساسة » .
ترافق هذه العبارة جميع أيام الطفولة وهي تعني العمر الذي يتعلم الطفل خلاله بسهولة جميع الأشياء الجديدة . أن يتعلم الطفل المشي يعني أولاً أن يتعلم التوازن ليتمكن من التقدم . وهذا لا يتم بلا صعوبة . لا ترفعي طفلك في كل مرة يقع فيها على الأرض . المجهود الذي سيقوم به ليقف من جديد سيقوّي عضلاته . يقع فيرتكز على يديه ليقوّم وضعه ، يقف ومن ثمّ يقع . هذه طريقة صعبة التعلم لكنها ضرورية . ساعدي طفلك بأن تمتدحي جهوده وتفهمي حاجاته . أخرجي طفلك من سريره ، وإلاّ أصبحت قضبانه كقضبان السجن بالنسبة إليه . دعيه يمشي على الأرض دون أن تغفلي عن مراقبته . عملية المشي ستحوّل طفلك من إنسان ضعيف معتمد كلياً على محيطه ، إلى إنسان متحرّك . وشيئاً فشيئاً سيصبح نشيطاً ومشغولاً للغاية ولا يتعب أبداً . وسيكون بنوع خاص ، قادراً على الإقتراب مما يستهويه بلا مساعدة من أحد ، ويصير قادراً على القيام يومياً بالعديد من الإكتشافات والتجارب . للمشي نتيجة أخرى غير مرئية ، بفضلها سيتحقّق الطفل كونه يملك جسداً ، لأنه يقع ويصدم نفسه بالأشياء ويتألم من جراء ذلك . هذه الكدمات والرضوض هي تجارب تتردّد عشرات المرّات في اليوم الواحد ، وتشعر الطفل بألم بسيط لكنها تعلمه الكثير . في النتيجة عندما يبلغ الثمانية عشر شهراً سيدور حول الأثاث ليتجنّبه بسبب الألم الذي ذاقه منه ولم ينسه .
يقوم الطفل بعدّة إكتشافات في هذا العمر لبناء شخصيته ومن بينها تعلّم النظافة . لا يعود يبلّل ثيابه لأنه بات يفهم أن هناك أشياء جيدة وأخرى سيئة . يفهم ذلك من خلال تصرفات أمه وملامحها ، فالشيء الجيد هو الذي تقدره أمه وتفرح به أما الشيء السيّىء فهو الذي يزعجها .
كذلك عندما يتعلم المشي يواجه عدّة ممنوعات ، نقول له : « لا تذهب إلى هناك ، لا تلمس هذا » . وهكذا بعد إن مشى الخطوات الأولى على طريق التحرّر ، يكتشف أن هناك حدوداً لحريته .
عالم الطفل خلال السنة الأولى لا يضمّ سواه هو وأمه . العلاقة بينه وبين أبيه لا تؤثّر عليه مباشرة . لكن منذ اللحظة التي يبدا فيها الطفل بالمشي ، يتغير كل شيء : سيذهب ويأتي ، يدفع ويصطدم بكل ما يصادف طريقه ، يقترب من أبيه ليجرّه من كمّه ، يقفز إلى حضنه .
الطفل الذي يمشي يفرض وجوده على المنزل ومن فيه .
الاكتشافات والتجارب الخطرة الآن وقد بدأ طفلك يمشي فإنه لن يلجأ إلى الإستراحة بسبب الكدمات التي أصابته . هو يتمتع بحيوية مدهشة وخصوصاً بحب الإستطلاع والإقدام على تجربة كل شيء . كان يتناول كل ما تقع عليه يده . أمّا الآن وقد أصبح باستطاعته لمس كل ما تراه عينه فإنه لن يحرم نفسه من هذه القدرة الجديدة . على العكس إنه سيفرح بذلك . يميناً ويساراً ، من الأعلى إلى الأسفل ، سيلمس كل شيء ! ولن يقف أحد في وجه طفل . يقفز فوق الكراسي والكنبات مهدّداً بالوقوع عدّة مرات ، ينزلق تحت السرير لالتقاط الكرة ، يصعد الدرج ويحاول النزول فلا يستطيع . يفتح الأبواب ، يفرغ محتويات الأدراج ، يضع السجائر في فمه ليقلّد الكبار . يفتح أنبوب الدواء أو أحمر الشفاه ، يحفّ عيدان الكبريت لتوليد نور جميل ، يحاول وضع دبوس في مأخذ الكهرباء ، يمزّق أوراق كتاب وضع على الطاولة ، يجرّ كرسيه إلى قرب الطاولة ليتمكن من الوصول إلى تفاحة حمراء وضعت عليها ، فيوقع الصحن وما فيه ويقع هو أيضاً . كل هذا يؤدي إلى صدور ضجيج وتخريب ، لكنه لا يزعج الطفل أبداً بل يعود إلى لعبه وكأن شيئاً لم يكن .
هو مهتم باكتشاف العالم الذي يحيط به والأشياء التي لا يعرفها ويبدو الطفل مأخوذاً بكل شيء جديد . بعض الأطفال يكونون أكثر هدوءاً ، والفتيات بشكل خاص . لكن ليس من الطبيعي أن يكون طفل له سنتان من العمر هادئاً وملتزماً السكون .
نحدّد هنا أن الطفل ليس مخرّباً عن قصد . عندما يكسر شيئاً فلأنه لا يعرف كيف يمسكه . إنه لا يرمي شيئاً ليعبّر عن العنف . العنف لا يظهر عند الطفل سوى في مرحلة تعليمه النظافة .
ماذا يجب أن نفعل عندما يلمس الطفل كل شيء ويركض في كل اتجاه ؟ السماح له بكل شيء أو منعه عن كل شيء ؟ لا هذا ولا ذاك . أن يمنع الطفل عن كل شيء يعني إعاقة توجّهه الأساسي نحو النمو ؛ فحركته المستمرة تطور حواسه وعضلاته وذكاءه . أما السماح له بكل شيء فيشكل خطراً عليه .
ما يجب فعله هو اعتماد نظام حرية مراقبة : ضعي طفلك في منحى عن المخاطر ( ضعي حافة للدرج وحديداً على النوافذ إلخ ... ) ثم دعيه يتصرف بحرية مكان آمن سواء أكان هذا المكان صغيراً أم كبيراً ، دعيه يغامر فهذا يعطيه ثقة بنفسه . المغامرة في هذه السن هي أن يقفز على الكنبة بمفرده ، وأن يفتح علبة بمفرده . ولن يذهب طفلك بعيداً من دونك لأنك تمثّلين الأمان والملجأ بالنسبة إليه . بعبارة مختصرة ، هو بحاجة إلى أن تكوني حاضرة كلما احتاج إليك ، وأن تردّي عليه كلما ناداك ، لكن شرط ألاّ تكثري من الممنوعات وألاّ تلاحقيه قائلة « انتبه سوف تؤذي نفسك إن قمت بهذا ... » وسترين أنه سيفتش عنك في كل مرة ليتأكّد من وجودك معه وبعدما يطمئن سيعود إلى ألعابه وانشغالاته .
في بعض المراحل ستختلط عند الطفل روح المغامرة بالحاجة إلى الأمان . الأمان هو أنت . لكن تذكري أن حشرية الطفل لا تنتهي كما أنها تتغلب على خوفه ؛ مخيلته واسعة ولا يعرف معنى للخطر ؛ المذاق الغريب والروائح المزعجة لا تضايقه . اشرحي لطفلك على مرّ الأيام ، ومن دون تسرّع ، كل ما هو مسموح أو ممنوع أو خطر .
ابتداءاً من عمر السنة سيتمكن الطفل من فهم الأشياء وكل يوم يفهم أكثر من اليوم السابق ، لكنه لا يستطيع التكهّن وحده بما يجب القيام به و ما يجب تفاديه . كيف تريدينه أن يعلم أنه من الطبيعي فتح علبة لرؤية ما في داخلها وأنه من الخطأ فتح منبّه ليرى من أين تأتي الدقّات ؟ إنّ شرحك بلهجة رقيقة يفهمه ويعلمه ذلك . لكن تفهّمه الأشياء ضعيف جداً أمام إرادته وفضوله . إذا أردت ألاّ يدخل غرفة ما فاغلقيها بدلاً من أن تصرخي بوجهه .
يتعلم الطفل بسرعة كيفية احترام عالم البالغين . وفي اليوم الذي يقوم فيه بهفوة لا تؤنّبيه بشدّة ؛ غضبك سيربكه ويخيفه . إن تأنيب ولد بهذا العمر والصراخ بوجهه يجعلانه يشعر بالذنب .
ما يسمّيه الأهل هفوات ، هو تصرف طبيعي أنتجه تفكير الطفل ويعتبره هذا الأخير اكتشافاً مسلياً.
لا يتكلّم جميع الأطفال بعمر محدّد ولا تنبت أسنان الجميع في تاريخ معيّن ، لكن لتوضيح نمو الطفل من الضروري الاعتماد على نقاط ارتكاز.
في كل الأحوال ، اكتساب المعرفة يأتي بالتدرّج . لن يصحو الطفل في أحد الأيّام وقد أصبح ذكياً أو يستطيع المشي بسهولة . فالذكاء يصحو يوماً بعد يوم والمشي لا يصبح قويماً إلاّ بعد أن يتعلّمه الطفل على مدى أسابيع .
جميع اطفال العالم يتخطون مراحل النمو متبعين الطريقة ذاتها . ومن الممكن ان تتأخر هذه المراحل بالظهور أو تتقدّم . بعض الأطفال يتكلّمون لدى بلوغهم السنة والنصف وآخرون بعمر السنة وثلاثة أشهر وآخرون ايضاً عند بلوغهم السنتين . هذه الاختلافات تتعلّق ، من جهة ، بالوراثة ومن جهة أخرى بتأثير المحيط .
حتى الآن أظهر لك طفلك عاطفته ، وفيما يلي سيبرهن لك عن ذكائه . سيبدأ بإظهار ذكائه من خلال أعمال يديه المرتبكتين .
في الشهر الأول من حياته لا يميّز الطفل سوى الأشياء المتحركة بقربه .
إن متعته الكبرى بين الشهر والأربعة أشهر هي في النظر إلى كل شيء يحيط به . في نهاية هذه الفترة يحاول الطفل التحرّك للوصول إلى هذه الأغراض وإن كان بلا جدوى .
بين الأربعة والثمانية اشهر ، يستطيع أخيراً إمساك الأشياء . عندما نقرّب منه شيئاً ، يحبو نحوه فرحاً . عندما يتوصّل إلى الإمساك به فإنه يلامسه وقتاً طويلاً ثم يضعه في فمه ليمتصه .
عندما يبلغ الطفل الثمانية أشهر تساعده حواسه على التعرّف إلى الاشياء من عدة زوايا : عيناه تدلاّنه على لون الشيء ، يداه تدلانه على شكله وحجمه ، فمه يعرّفه على مذاقه ، وأنفه على الرائحة التي تفوح منه . بهذه الطريقة وشيئاً فشيئاً يتعود الطفل على الأغراض التي تحيط به ويتعرّف عليها . لكن في هذه الفترة ( 4 ـ 8 أشهر ) إن لم يكن الغرض أمامه فالطفل لن يبحث عنه لأن الغرض لم يعد موجوداً بالنسبة إليه .
الفترة الممتدة بين الثمانية والاثني عشر شهراً هي فترة مهمة . في الشهر الثامن من عمره حين يبحث للمرة الأولى عن الملعقة التي وقعت منه أو اللعبة التي خبّئت عليه فهذا يعني أن باستطاعته القيام بالتحقيق التالي : « كنت أملك ملعقة ؛ إنها لم تعد هنا . يجب أن تكون في مكان آخر » . وترينه ينحني نحو الأرض ليفتش عن ملعقته .
يتصرّف الطفل تجاه الأشخاص كما يتصرّف إزاء الأشياء ؛ فهو يعلم أن أمّه موجودة حتى ولو أنه لا يراها . هذا ما كان يجهله في السابق . لذلك هو يبكي عندما تبتعد عنه ولذلك أيضاً يروح يبحث عن الأغراض أو الاشخاص الذين يعلم أنهم موجودون حتى عندما لا يراهم . هذه اللعبة الكلاسيكية هي برهان عن ذكاء الطفل .
الذاكرة هي أيضاً برهان عن الذكاء : عندما يضع الطفل علبة ، كان يلعب بها ، على سريره ليتحدث مع أمه بلغته الخاصة وبعد أن ينتهي يتجه فجأة نحو العلبة ، ليأخذها مظهراً بذلك أنه لم ينسها . في بعض الأحيان نرى طفلاً يرمي لعبته على الأرض فتعود أمه وتلتقطها له ، وفي كل مرة يأخذها ، يعيد رميها من جديد لكننا لا نتنبه إلى أنه في كل مرة يرميها بشكل مختلف وكأنه يحاول التأكد من قانون الجاذبية .
خلال نموّه يتصرّف الطفل بالتدرّج على طريقة ( نيوتن ) : بين سن الثمانية اشهر والسنة يكتشف قانون الجاذبية . وعلى طريقة ( ديكارت ) : « إني أفكّر ، إذن أنا موجود » ، بين السنتين والسنتين والنصف . ذلك هو اكتشاف الـ « أنا » ؛ ويتطوّر بطريقة ( نيتشيه ) أي يمتلك إرادة القدرة ، ففي عمر السنتين والنصف يريد الطفل تأكيد قدرته .
من الطبيعي أن يعيد الطفل المسيرة الفكرية للإنسانية بما أنه ، هو أيضاً ، يكتشف أسرار العالم .
كشفت يد الطفل عن ذكائه ، وستقوم الآن بخدمته ، إذ إنها ستمكّنه من اكتشاف جميع الزوايا وستكون العضو الذي يجلب له المعلومات . هذا الاكتشاف وهذه المعلومات ستعلّم الطفل الكثير من الاشياء التي سيستفيد منها ليغذي معرفته ؛ ويوماً بعد يوم ينمو ذكاؤه . سيفتش عن نقاط التشابه بين الأشياء التي تحيط به ويجد العلاقة التي تربطها بعضاً ببعض . يتمكن الطفل مثلاً من أن يضع مكعباً صغيراً داخل آخر أكبر حجماً . ويتمكن حيناً آخر من إدخال عود في حلقه ، بينما كان في السابق يضع العود بالقرب من الحلقة . في وقت لاحق ، بين السنة والنصف ـ والسنتين ، يحاول الطفل أن يلمس كل شيء .
بما أنه أصبح يمشي في هذا العمر فلن تعود هناك حدود لفضوله . في كل لحظة يقوم باكتشاف جديد ، بتجربة جديدة ، ويكمل ذكاؤه وتقدّمه . بعد القيام بعدة محاولات متكررة وبعد أن يصاب بالفشل مراراً وبعد ان يستعين بالمصادفات ويقلّد من حوله ، تصبح تصرّفات الطفل متزنة ويتمكّن من إيجاد الحلول لمسائل كانت عاصية عليه من أشهر خلت . مثلاً لكي يبحث عن الكرة التي اختفت وراء المقعد ، يدور الطفل حول هذا الأخير . لبلوغ الحلوى الموضوعة على الطاولة ، يضع الكرسي بقربها ويصعد اليها . بعد بلوغ الطفل السنتين من عمره ستقود يده ذكاءه إلى أبعد حدود . وبالإضافة إلى ذلك سيتابع إظهار ذكائه بواسطة الكلام . شيئاً فشيئاً سيتفتح ذهن الطفل ويبدأ بتمتمة الكلمات وجمعها ليؤلّف منها أقوالاً تفهم . ستبدأ عندها مرحلة جديدة من التفكير .
استعمال القدمين ومدى تأثيره على تطور الطفل.. سار طفلك في طريق النمو مستعملاً رأسه ، أما الآن فسيبدأ باستعمال رجليه :
بعدما برهن الطفل على أنه ذكي سوف يظهر الآن أن باستطاعته المشي . هذه ميزة نمو الطفل ، أن يكون في البدء مفكراً ثم يظهر قدرته الجسدية ومن وقت لآخر هو عاطفي كبير .
إنّ تطوّر الطفل باتجاه واحد يحدث خللاً في توازنه . يحتاج الطفل إلى ستة أشهر كي ينتقل من مرحلة الاستناد إلى جوانب سريره ليقف ، إلى مرحلة ترك يد أمه ليمشي وحده . ستة أشهر من المجهود اليومي مع ما يرافقه من نجاح وفشل : في بعض الأيام يتقدم الطفل بخطوات ثابتة وفي الأيام السيئة يتوصل بصعوبة إلى الوقوف على رجليه . في هذه المرحلة يضع الطفل كل قواه وتركيزه على محاولته المشي ولا يقوم بأي تقدم في المجالات الأخرى . في عمر السنة ، حين يتفوّه الطفل بالكلمة الأولى يبدو وكأنه بدأ مرحلة الكلام جيداً ، لكن بين السنة ، والسنة والنصف يعود فيتمتم كلاماً غير واضح . كذلك في عمر السنة ينام جيداً طوال الليل . لكن عندما يبدأ بالمشي سيشكو من الإرق .
يجب معرفة هذه الفكرة التي ترافق نمو الطفل : عندما يقوم الطفل بتقدم في مجال ما فهو يتراجع في المجالات الأخرى . ويجب الاطمئنان إلى كون هذا طبيعياً . إنّ الفترة الممتدة بين عمر السنة والـ 18 شهراً هي سن المشي لدى أكثرية الأطفال ، ويصفها الإختصاصيون « بالفترة الحساسة » .
ترافق هذه العبارة جميع أيام الطفولة وهي تعني العمر الذي يتعلم الطفل خلاله بسهولة جميع الأشياء الجديدة . أن يتعلم الطفل المشي يعني أولاً أن يتعلم التوازن ليتمكن من التقدم . وهذا لا يتم بلا صعوبة . لا ترفعي طفلك في كل مرة يقع فيها على الأرض . المجهود الذي سيقوم به ليقف من جديد سيقوّي عضلاته . يقع فيرتكز على يديه ليقوّم وضعه ، يقف ومن ثمّ يقع . هذه طريقة صعبة التعلم لكنها ضرورية . ساعدي طفلك بأن تمتدحي جهوده وتفهمي حاجاته . أخرجي طفلك من سريره ، وإلاّ أصبحت قضبانه كقضبان السجن بالنسبة إليه . دعيه يمشي على الأرض دون أن تغفلي عن مراقبته . عملية المشي ستحوّل طفلك من إنسان ضعيف معتمد كلياً على محيطه ، إلى إنسان متحرّك . وشيئاً فشيئاً سيصبح نشيطاً ومشغولاً للغاية ولا يتعب أبداً . وسيكون بنوع خاص ، قادراً على الإقتراب مما يستهويه بلا مساعدة من أحد ، ويصير قادراً على القيام يومياً بالعديد من الإكتشافات والتجارب . للمشي نتيجة أخرى غير مرئية ، بفضلها سيتحقّق الطفل كونه يملك جسداً ، لأنه يقع ويصدم نفسه بالأشياء ويتألم من جراء ذلك . هذه الكدمات والرضوض هي تجارب تتردّد عشرات المرّات في اليوم الواحد ، وتشعر الطفل بألم بسيط لكنها تعلمه الكثير . في النتيجة عندما يبلغ الثمانية عشر شهراً سيدور حول الأثاث ليتجنّبه بسبب الألم الذي ذاقه منه ولم ينسه .
يقوم الطفل بعدّة إكتشافات في هذا العمر لبناء شخصيته ومن بينها تعلّم النظافة . لا يعود يبلّل ثيابه لأنه بات يفهم أن هناك أشياء جيدة وأخرى سيئة . يفهم ذلك من خلال تصرفات أمه وملامحها ، فالشيء الجيد هو الذي تقدره أمه وتفرح به أما الشيء السيّىء فهو الذي يزعجها .
كذلك عندما يتعلم المشي يواجه عدّة ممنوعات ، نقول له : « لا تذهب إلى هناك ، لا تلمس هذا » . وهكذا بعد إن مشى الخطوات الأولى على طريق التحرّر ، يكتشف أن هناك حدوداً لحريته .
عالم الطفل خلال السنة الأولى لا يضمّ سواه هو وأمه . العلاقة بينه وبين أبيه لا تؤثّر عليه مباشرة . لكن منذ اللحظة التي يبدا فيها الطفل بالمشي ، يتغير كل شيء : سيذهب ويأتي ، يدفع ويصطدم بكل ما يصادف طريقه ، يقترب من أبيه ليجرّه من كمّه ، يقفز إلى حضنه .
الطفل الذي يمشي يفرض وجوده على المنزل ومن فيه .
الاكتشافات والتجارب الخطرة الآن وقد بدأ طفلك يمشي فإنه لن يلجأ إلى الإستراحة بسبب الكدمات التي أصابته . هو يتمتع بحيوية مدهشة وخصوصاً بحب الإستطلاع والإقدام على تجربة كل شيء . كان يتناول كل ما تقع عليه يده . أمّا الآن وقد أصبح باستطاعته لمس كل ما تراه عينه فإنه لن يحرم نفسه من هذه القدرة الجديدة . على العكس إنه سيفرح بذلك . يميناً ويساراً ، من الأعلى إلى الأسفل ، سيلمس كل شيء ! ولن يقف أحد في وجه طفل . يقفز فوق الكراسي والكنبات مهدّداً بالوقوع عدّة مرات ، ينزلق تحت السرير لالتقاط الكرة ، يصعد الدرج ويحاول النزول فلا يستطيع . يفتح الأبواب ، يفرغ محتويات الأدراج ، يضع السجائر في فمه ليقلّد الكبار . يفتح أنبوب الدواء أو أحمر الشفاه ، يحفّ عيدان الكبريت لتوليد نور جميل ، يحاول وضع دبوس في مأخذ الكهرباء ، يمزّق أوراق كتاب وضع على الطاولة ، يجرّ كرسيه إلى قرب الطاولة ليتمكن من الوصول إلى تفاحة حمراء وضعت عليها ، فيوقع الصحن وما فيه ويقع هو أيضاً . كل هذا يؤدي إلى صدور ضجيج وتخريب ، لكنه لا يزعج الطفل أبداً بل يعود إلى لعبه وكأن شيئاً لم يكن .
هو مهتم باكتشاف العالم الذي يحيط به والأشياء التي لا يعرفها ويبدو الطفل مأخوذاً بكل شيء جديد . بعض الأطفال يكونون أكثر هدوءاً ، والفتيات بشكل خاص . لكن ليس من الطبيعي أن يكون طفل له سنتان من العمر هادئاً وملتزماً السكون .
نحدّد هنا أن الطفل ليس مخرّباً عن قصد . عندما يكسر شيئاً فلأنه لا يعرف كيف يمسكه . إنه لا يرمي شيئاً ليعبّر عن العنف . العنف لا يظهر عند الطفل سوى في مرحلة تعليمه النظافة .
ماذا يجب أن نفعل عندما يلمس الطفل كل شيء ويركض في كل اتجاه ؟ السماح له بكل شيء أو منعه عن كل شيء ؟ لا هذا ولا ذاك . أن يمنع الطفل عن كل شيء يعني إعاقة توجّهه الأساسي نحو النمو ؛ فحركته المستمرة تطور حواسه وعضلاته وذكاءه . أما السماح له بكل شيء فيشكل خطراً عليه .
ما يجب فعله هو اعتماد نظام حرية مراقبة : ضعي طفلك في منحى عن المخاطر ( ضعي حافة للدرج وحديداً على النوافذ إلخ ... ) ثم دعيه يتصرف بحرية مكان آمن سواء أكان هذا المكان صغيراً أم كبيراً ، دعيه يغامر فهذا يعطيه ثقة بنفسه . المغامرة في هذه السن هي أن يقفز على الكنبة بمفرده ، وأن يفتح علبة بمفرده . ولن يذهب طفلك بعيداً من دونك لأنك تمثّلين الأمان والملجأ بالنسبة إليه . بعبارة مختصرة ، هو بحاجة إلى أن تكوني حاضرة كلما احتاج إليك ، وأن تردّي عليه كلما ناداك ، لكن شرط ألاّ تكثري من الممنوعات وألاّ تلاحقيه قائلة « انتبه سوف تؤذي نفسك إن قمت بهذا ... » وسترين أنه سيفتش عنك في كل مرة ليتأكّد من وجودك معه وبعدما يطمئن سيعود إلى ألعابه وانشغالاته .
في بعض المراحل ستختلط عند الطفل روح المغامرة بالحاجة إلى الأمان . الأمان هو أنت . لكن تذكري أن حشرية الطفل لا تنتهي كما أنها تتغلب على خوفه ؛ مخيلته واسعة ولا يعرف معنى للخطر ؛ المذاق الغريب والروائح المزعجة لا تضايقه . اشرحي لطفلك على مرّ الأيام ، ومن دون تسرّع ، كل ما هو مسموح أو ممنوع أو خطر .
ابتداءاً من عمر السنة سيتمكن الطفل من فهم الأشياء وكل يوم يفهم أكثر من اليوم السابق ، لكنه لا يستطيع التكهّن وحده بما يجب القيام به و ما يجب تفاديه . كيف تريدينه أن يعلم أنه من الطبيعي فتح علبة لرؤية ما في داخلها وأنه من الخطأ فتح منبّه ليرى من أين تأتي الدقّات ؟ إنّ شرحك بلهجة رقيقة يفهمه ويعلمه ذلك . لكن تفهّمه الأشياء ضعيف جداً أمام إرادته وفضوله . إذا أردت ألاّ يدخل غرفة ما فاغلقيها بدلاً من أن تصرخي بوجهه .
يتعلم الطفل بسرعة كيفية احترام عالم البالغين . وفي اليوم الذي يقوم فيه بهفوة لا تؤنّبيه بشدّة ؛ غضبك سيربكه ويخيفه . إن تأنيب ولد بهذا العمر والصراخ بوجهه يجعلانه يشعر بالذنب .
ما يسمّيه الأهل هفوات ، هو تصرف طبيعي أنتجه تفكير الطفل ويعتبره هذا الأخير اكتشافاً مسلياً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق